بقلم: نهاري امبارك، مفتش التوجيه التربوي، مكناس.
" الاستعطاف" بين الحق والامتياز
بعد تسجيل تفاقم ظاهرة الهدر المدرسي، تم إصدار عدة نصوص تنظم عملية إرجاع التلاميذ المفصولين والمنقطعين عن الدراسة لمنحهم فرصة استثنائية للعود إلى الأسلاك الدراسية ومتابعة دراستهم، وذلك عن طريق تشكيل لجن بالمؤسسات التعليمية خاصة بالموضوع، واعتماد مجموعة من المعايير تتمثل في ما هو مدرسي وتربوي واجتماعي وصحي، مع مراعاة البنية التربوية للمؤسسة وطاقتها الاستيعابية بكل مستوى تعليمي وكل سلك دراسي.
فماذا تعني الصيغة التربوية "إرجاع التلاميذ المنقطعين والمفصولين عن الدراسة لمتابعة دراستهم، تربويا وإداريا"؟ وكيف تحولت هذه الصيغة، اجتماعيا، إلى مفردة "استعطاف"؟ وماذا يعني "الاستعطاف"؟
حيث يلاحظ، بداية كل سنة دراسية أعداد هائلة من التلاميذ وأولياء أمورهم يزدحمون أمام أبواب الإدارة التربوية بالمؤسسات التعليمية، خصوصا الثانوية منها، يتقدمون بطلبات ترمي إلى إرجاع التلاميذ المفصولين والمنقطعين عن الدراسة لمتابعة دراستهم، فإن الحدث لا يمكن إلا أن يثير الانتباه، لكثرة الطلبات، وتشبث الأمهات والآباء والتلاميذ بطلباتهم، حيث يترددون مرات متعددة للاستفسار عن نتائج هذه الطلبات، ليبلغ إلى علمهم أن العملية تخضع لمعايير معينة، وأن كل تلميذ لا تتوفر فيه هذه المعايير يرفض إرجاعه لمتابعة الدراسة، فتثور حفيظة البعض، وتتعالى أصوات واحتجاجات، وأحيانا تحدث شنآنات ونزاعات.
إن جميع النصوص المنظمة لعملية إرجاع التلاميذ المفصولين والمنقطعين عن الدراسة لمتابعة دراستهم، تحدد معايير معينة تعتمدها لجنة خاصة، وتحث على التعامل بمرونة مع مختلف حالات التعثر الدراسي، للاحتفاظ بالتلاميذ بالأسلاك الدراسية ما أمكن، للاستفادة من الخدمات التربوية والتعليمية لإتاحة لهم فرص الارتقاء في سلم التمدرس إلى مستويات أعلى، من أجل تحقيق الأهداف التي يرسمونها لأنفسهم أكاديميا ومهنيا، وليكونوا أفرادا مثقفين وواعين بحقوقهم وواجباتهم وصالحين لأنفسهم ولمجتمعهم مساهمين في الرقي الاقتصادي والتنمية الاجتماعية.
ووفقا للمعايير المحددة ومواقف الطاقم الإداري والتربوي، خصوصا الأساتذة، من بعض التلاميذ لأسباب متعددة، قد تكون ذاتية أو موضوعية، فإن مجموعة من القرارات قد تأتي عكس ما يترقبه التلاميذ وأولياؤهم من طلبات الإرجاع.
ولما تستنفذ الحالات المستجيبة للمعايير المحددة، وترفض حالات، يتشبث التلاميذ وأولياء أمورهم بطلباتهم تحت طائلة من المبررات، ومتقدمين بمقترحات، كل حسب هدفه ووضعه، مفادها:
· القبول مع تغيير المؤسسة؛
· أو القبول مع توقيع التزام بالانضباط والمواظبة؛
فينحت أولياء التلاميذ مفردات وعبارات موجهة إلى مدير المؤسسة التعليمية، وأحيانا إلى أعضاء اللجنة الخاصة وذلك، من قبيل:
· " اعملوا فينا هذا الخير"؛
· و"إننا لن ننسى فضلكم علينا"؛
· و"لا تتركوا أبناءنا عرضة للضياع"؛
· و"نرجوكم"؛
· و "نتوسل إليكم"؛
وهكذا تتحول عملية خاضعة لمعايير مدرسية وتربوية واجتماعية وصحية إلى مواقف ذات بعد ثقافي وأخلاقي، ترتكز على ما هو إنساني وترتبط بفعل الخير، ومن ثم تصبح رجاء وتوسلا وطلب عطف، فشاعت على أساس هذه المفردات، مفردة "الاستعطاف" في الأوساط الاجتماعية، التي أخذت تتردد حتى في الأوساط التربوية والتعليمية، وتترجم إلى" اعملوا فيه(ه) هذا الخير" وامنحوه(ها) فرصة.
ولما يتم الرفض التام لإرجاع تلميذ(ة) ما لأسباب معينة، يحددها الأطر الإدارية والتربوية، تترجم وضع التلميذ(ة) المرفوض(ة)، تتعالى أصوات مرددة مفردات وعبارات تحمل كلاما ينم عن استياء وعدم الرضى، سواء من طرف التلاميذ أو أولياء أمورهم، أو من طرف بعض الأطر الإدارية والتربوية، موجهة إلى رئيس المؤسسة وأعضاء اللجنة الخاصة، وذلك من قبيل:
· " لا يحبون فعل الخير"؛
· و"إنهم ليس لهم أبناء يطلبون الإرجاع لمتابعة دراستهم"؛
· و" لا يعرفون الإنسانية"؛
· و" إنهم يتعاملون بقسوة مع تلاميذ يرغبون في متابعة دراستهم"؛
· و"إنهم يحرمون التلاميذ من التمدرس"؛
· وغير ذلك من المفردات والعبارات؛
وهكذا تتراءى مظاهر المواقف السلبية لدى الأمهات والآباء من الأطر الإدارية والتربوية، وتتربع حتى بين الأطر الإدارية والتربوية أنفسهم، قد تؤدي إلى تعقيد التعاملات وأحيانا إلى قطيعة وقطع العلاقات.
أما التلاميذ المرجعون لمتابعة دراستهم، أو "المستعطفون" كما تحلو تسميتهم لدى البعض، فإن وضعيتهم المدرسية والتربوية، على العموم، لا تخلو من اختلالات وتناقضات ناتجة عن مواقف بعض الأساتذة منهم وكذا زملاء الفصل الدراسي، حيث لا يفتأون يرددون في حق التلميذ المرجع "المستعطف" في كل مناسبة أتيحت لهم، ما يؤدي إلى انتهاج، التلاميذ المرجعين بشكل عام، سلوكات عنيفة ، تترتب عنها أحيانا مشادات كلامية ونزاعات تؤدي بالأساتذة إلى رفع تقارير إلى مجلس القسم يطالبون بعقوبات متنوعة، ينتج عنها تمرد التلاميذ المرجعين على الدراسة وتتسم سلوكاتهم بالقسوة والعنف، فتتفاقم مواظبتهم وانضباطهم، ويضعف تحصيلهم الدراسي.
إن ممارسات متعددة ساهمت في زيغان هذه العملية التربوية عن مسارها وأهدافها، حيث أصبح جميع التلاميذ وأولياء أمورهم المتقدمين بطلبات الإرجاع يتشبثون بطلباتهم دون مراعاة الشروط التي تضعها النصوص المنظمة، والتي يسهر على تطبيقها أعضاء اللجنة الخاصة. وفي المقابل يتشبث الأطر الإدارية والتربوية، وخصوصا أعضاء اللجنة الخاصة بآرائهم وقراراتهم المبنية على الشروط التي تحددها الوثائق المرجعية، وهكذا يتم تسجيل تصادم أمهات وآباء وأولياء التلاميذ بالأطر الإدارية والتربوية: فالأمهات والآباء يرون أن رفض طلبات إرجاع أبنائهم حيف وحرمان من متابعة الدراسة، أما الأطر الإدارية والتربوية فيرون أنه من الواجب تطبيق الشروط والمعايير المحددة بواسطة النصوص المعتمدة، مع مراعاة مرونة اتخاذ جميع القرارات التربوية والإدارية.
ولتصفية الأجواء بين التلاميذ وأولياء أمورهم وبين الأطر الإدارية والتربوية، وتجنب الجميع وضعيات المواجهات والمشادات والقطيعة، ولمحاربة ظاهرة الهدر المدرسي، بشكل جذري ومؤسساتي، من جهة، ووضع حد لطلبات الإرجاع من جهة أخرى، فإن المقترحات التالية تبدو، في اعتقادنا، ذات فعالية وتسهم في الرفع من المردودية المدرسية النوعية والكمية، والداخلية والخارجية، والاحتفاظ بالتلاميذ ما أمكن في الأسلاك الدراسية إلى غاية استيفائهم عددا محددا من سنوات التمدرس المخولة لهم قانونيا ودون "استعطاف":
· بسلك التعليم الابتدائي، يتم تحديد سنوات التمدرس القانونية بما في ذلك السنوات الاحتياطية والاستثنائية، في عدد محدد وموحد من السنوات إجمالا، تمكن التلاميذ من تحقيق نتائج إيجابة، وإحالة من لم يتوفق منهم، بعد قضاء هذه السنوات، مباشرة ودون طلبات، على خدمات التربية غير النظامية؛
· بسلك التعليم الثانوي، يتم تحديد سنوات التمدرس القانونية، بما في ذلك السنوات الاحتياطية والاستثنائية، في عدد محدد وموحد من السنوات إجمالا، تمكن التلاميذ من تحقيق نتائج إيجابة، سواء بالتعليم الإعدادي أو التأهيلي، مع تفعيل الجسور بين النظام التعليمي ونظام التكوين المهني؛
· وموازاة مع هذه الإجراءات، تنظم كل الجهات المعنية بالتمدرس، وكل الفاعلين التربويين حملات تحسيسية توعوية، تدعو أمهات وآباء وأولياء التلاميذ لإعطاء التعليم أهمية قصوى، وذلك عن طريق الاعتناء بأبنائهم، وتتبعهم ومواكبة تمدرسهم، وربط اتصال دائم مع المؤسسة التعليمية، والمساهمة في صون المدرسة، والسهر على بنايتها والمحافظة على أسوارها وحجراتها...؛
· توسيع شبكات الأجنحة الداخلية بالمؤسسات التعليمية الثانوية الإعدادية والتأهيلية على حد سواء، خصوصا بالوسط القروي، حيث المؤسسة التعليمية تبعد، عن مختلف المداشر والدواوير والقرى المحيطة بها، مسافة لا يستهان بها، يعجز التلاميذ عن قطعها على الأرجل أو حتى على الدراجات، حيث الحر صيفا والبرد شتاء، إضافة إلى مسالك وعرة وطرق غير معبدة وفيضانات مفاجئة، وغير ذلك من الموانع والمعيقات التي تعترض سبيل التمدرس بالبوادي والمناطق النائية، والتي غالبا ما تشكل الأسباب الأساسية للفصل والانقطاع عن الدراسة؛
· تعميم عملية الإطعام بالمؤسسات التعليمية، خصوصا القروية منها، وبكل جماعة قروية، لفائدة جميع التلاميذ، بعد تحديد أقصى مسافة يمكن أن يقطعها التلاميذ دون إرهاق ودون تضييع كثير من الوقت؛
· تعميم عملية تزويد التلاميذ المنحدرين من الأسر المعوزة بالكتب والأدوات المدرسية، خاصة بالوسط القروي، وذلك بجميع المستويات الدراسية وعلى امتداد السنة الدراسية؛
· بناء دور للطالب(ة) بجميع الجماعات القروية، قرب المؤسسة التعليمية الثانوية، تتوفر فيها معايير ضمان الراحة والاستقرار والتحفيز، لتمكين التلاميذ غير الممنوحين، من خدمات الأكل والإيواء، حتى يتابعوا دراستهم دون تعثر؛
المراجع:
¨ الميثاق الوطني للتربية والتكوين، 2000، المغرب.
¨ البرنامج الاستعجالي 2009-20012، المغرب.
¨ النصوص المنظمة للتمدرس بكل سلك من الأسلاك الدراسية.
¨ النصوص المنظمة لعملية إرجاع التلاميذ المفصولين والمنقطعين عن الدراسة لمتابعة دراستهم؛
بقلم: نهاري امبارك، مفتش التوجيه التربوي، مكناس.
0 commentaires :
إرسال تعليق