نموذج من القرارات المرتجلة، بقلم: عبد العزيز سنهجي (*)
قُبيل مغادرته لوزارة التربية الوطنية، أقدم السيد محمد الوفا على توقيع مشروع مرسوم في شأن إحداث وتنظيم المركز الوطني لتكوين مفتشي وزارة التربية الوطنية، وذلك عبر دمج كل من مركز تكوين مفتشي التعليم و مركز التوجيه والتخطيط التربوي في مركز واحد تحت إسم "المركز الوطني لتكوين مفتشي وزارة التربية الوطنية". كما ينص هذا المشروع على الفصل بين التكوين في المجال التربوي، والتكوين في المجالين الإداري والمالي، من خلال إحداث سلكين إثنين: يتعلق الأول، بسلك المفتشين التربويين، ويظم مسلك مفتشي التعليم الابتدائي ومسلك مفتشي التعليم الثانوي.ويتم القبول ضمن مسلك مفتشي التعليم الابتدائي بعد النجاح في مباراة تفتح في وجه أساتذة التعليم الابتدائي المرسمين والمتوفرين على سبع سنوات من الخدمة في مجال التدريس. أما بالنسبة لمسلك مفتشي التعليم الثانوي، فيتم القبول به بعد النجاح في مباراة تفتح في وجه أساتذة التعليم الثانوي التأهيلي والأساتذة المبرزين وأساتذة التعليم الإعدادي المرسمين والمتوفرين على سبع سنوات من الخدمة في مجال التدريس منها أربع سنوات من الخدمة بهذه الصفة. وتفتح أيضا هذه المباراة في هذا المسلك، حسب منطوق هذا المرسوم، أمام مستشاري التوجيه التربوي المرسمين والمتوفرين على سبع سنوات من الخدمة في مجال التوجيه التربوي منها أربع سنوات من الخدمة بهذه الصفة؛ أما السلك الآخر فيتعلق بمفتشي المصالح المادية والمالية والتخطيط التربوي ويظم مسلك مفتشي التخطيط ومسلك مفتشي الشؤون المادية والمالية. ويتم القبول في هذا المسلك بعد النجاح في مباراة تفتح في وجه الممونين الرسميين والمتصرفين المتوفرين على سبع سنوات من الخدمة ضمن أسلاك وزارة التربية الوطنية، أما مسلك مفتشي التخطيط فيتم القبول فيه بعد النجاح في مباراة تفتح في وجه المستشارين في التخطيط والمتصرفين الرسميين والمتوفرين على سبع سنوات أقدمية. وتستغرق مدة التكوين بالمركز سنتين، السنة الأولى عبارة عن جذع مشترك، أما الثانية فيتم فيها اختيار سلك التخصص.
ويأتي هذا المشروع في سياق تربوي مطبوع بتعدد الرهانات و تعاظم التحديات التي تواجه الشأن التربوي، مما يستدعي إحكام وضبط آليات الاشتغال وعقلنة القرارات وفق مقاربة تكرس الإنصاف وتضمن تكافؤ الفرص وتفتح آفاقا محفزة للارتقاء المهني أمام الفاعلين التربويين أملا في خلق مناخ الاستقرار التربوي والنفسي الداعم لكل مبادرات التجديد والتغيير المأمولة. إن الوعي بدقة وخطورة اللحظة التربوية، يقتضي أيضا، التفكير بمنطق نسقي استراتيجي مندمج في هندسة المشاريع وطرح المبادرات، وتجنب هدر المزيد من الفرص ومراكمة الفشل. ضمن هذا الأفق تتناسل العديد من الأسئلة حول مشروع مرسوم إحداث وتنظيم المركز الوطني لتكوين مفتشي وزارة التربية الوطنية. فما هي، إذن، الخلفية المتحكمة في بناء هذا المشروع؟ وهل جاء متوازنا في التعاطي مع مكونات هيآت التفتيش؟ وهل يملك ضمانات النجاح وشروط الاستمرارية؟ وهل سيدعم تعميق التخصص ويخلق التحفيز المطلوب للفئات المستهدفة ؟
بدأت تتبلور فكرة توحيد مركزي تكوين مفتشي التعليم في سياق تنزيل مقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ومع استصدار المذكرة الإطار والمذكرات الناظمة للتفتيش في سنة 2004، والتي أكدت على المزاوجة بين المهام التخصصية والمهام المشتركة للمفتشين بمختلف أصنافهم، ودعت في نفس الوقت إلى الجمع بين تأطير الأفراد وتأطير المؤسسات، ازدادت القناعة حول أهمية تجميع مختلف أسلاك التفتيش في مركز وطني واحد، ترشيدا للموارد المادية والمالية والبشرية واللوجستيكية من جهة، وربحا لرهان العمل الجماعي و ترسيخا للمسعى التشاركي في التعاطي مع إشكالات منظومة التربية والتكوين من جهة أخرى. وكان من المفترض أن يخضع قرار التوحيد لدراسة علمية ومنهجية قبلية تستعين بآراء أهل الاختصاص، وينخرط في نفس إصلاحي تطويري، يتم من خلاله تدقيق مدخلات المركز وانتقاء خرائط التكوين الأساس وتحديد الآليات الإدارية والتربوية التي تبلور مواصفات التخرج المطلوبة، وترصد الإنجازات وتحافظ على المكتسبات... لكن شيئا من هذا لم يقع، وتم التسرع في استصدار مشروع مرسوم يهم الدمج وليس التوحيد دون مراعاة للضوابط والشروط والمعايير الضامنة لنجاح خطوة من هذا القبيل، مما سيزيد في تفاقم الوضع ويعمق الارتباك على مستويات عدة، ويمكن إجمال أهم الاختلالات والتناقضات التي يتضمنها هذا المشروع ضمن العناوين التالية:
• الإجهاز على سلك التفتيش في مجال التوجيه التربوي: إن إقصاء سلك التفتيش في التوجيه ضمن مشروع مرسوم الدمج هو إجهاز على حق مكتسب لمنظومة التربية والتكوين، وهو مصادرة لاختيار أصيل واستراتيجي لمنظومتنا التربوية، وتكريس لنظرة تربوية غير متوازنة، لا تتعاطى بموضوعية وحكمة مع مهام وأدوار مكونات هيئة التفتيش، وتحرم المنظومة وهيآت التفتيش من مصادر النمو والتطور والتضامن والاستشراف وتضرب في الصميم التوجه نحو الانخراط في الإعداد للمستقبل. وعليه، لا يجوز بأي حال من الأحوال أن نحرم مؤسساتنا وأبنائنا من خدمات هؤلاء الأطر، علما أن مركز التوجيه والتخطيط التربوي كان يخرج في حدود خمسة مفتشين في التوجيه التربوي سنويا منذ 1989، تم تعيين معظمهم بالجهات والأقاليم لدعم تجربة الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين وإنجاح مجهودات اللامركزية واللاتمركز، وهو عدد ضئيل أصلا لا يفي بحاجيات التأطير والمواكبة والدعم والبحث والتقويم المتزايدة في هذه السنوات الأخيرة. وفي الوقت الذي يتعاظم فيه الطلب على خدمات التوجيه التربوي في جوانبها التنفيذية والتدبيرية والتأطيرية من طرف الفاعلين التربويين والاقتصاديين والأسر والتلاميذ...، ويتواتر طرح هذا الملف في الخطب الملكية والمشاريع الإصلاحية و الأوراش الواعدة التي يتطلع إليها المغرب، نتفاجأ ببثر حلقة مفصلية ضمن منظومة التوجيه مسؤولة عن تطوير الأداء المهني لأطر التوجيه وتصحيح الاختلالات التي يعرفها المجال وضبط آليات اشتغال هذا الأخير، ومناط بها أيضا تجويد ودمقرطة خدمات التوجيه والإعلام والمساعدة، ومطلوب منها تعميم التجارب المهنية الناجحة وتقاسم الممارسات الجيدة والتنسيق مع مختلف القطاعات المتدخلة وتقويم برامج العمل الخاصة بالخدمات المقدمة للتلاميذ وأسرهم بالجهات والأقاليم. ويزداد الوضع غموضا وإلتباسا في غياب معلومات كافية حول مآل سلكي الاستشارة في التوجيه والتخطيط التربويين الذين يحتضنهما مركز التوجيه والتخطيط التربوي بالرباط. وحتى إن سلمنا بوجود إرادة لتحويل التكوينات الأساسية بأسلاك الاستشارة الخاصة بالتخطيط والتوجيه للمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، فهذا يقتضي التفكير بمنظور نسقي استشرافي إعادة هيكلة مراكز التكوين الجهوية، وذلك من خلال تحديد المدخلات المطلوبة وخريطة التكوين الأساس وطبيعة الجهات المعهد إليها بتنفيذ وتدبير التكوين بأسلاك الاستشارة، مما يتطلب استحضار كل ذلك في مشروع مرسوم الدمج. وهذا، ما لم نتمكن من استخلاصه بتحليلنا لبعض عناصر هذا المرسوم؛
• تفاوت في المسارات المهنية وتكريس للفوارق في المدخلات: بتمحيصنا وتدقيقنا للمسارات المهنية لمدخلات المركز الوطني لتكوين مفتشي وزارة التربية الوطنية، يتضح ضرب في العمق مسألة تكافؤ الفرص وتمييز بعض الفئات على حساب أخرى، ودفع فئات أخرى لمسالك دون وجود ما يبرر ذلك، مما يدفعنا إلى التساؤل حول خلفيات مهندسي هذا المشروع الذي يعوزه الانسجام والتماسك والتعاطي المتوازن مع مختلف الفئات، ويفتقد لرؤية ترصد المسارات المهنية وتعمق التخصصات. وهكذا، يطرح مثلا سؤال الجدوى من دفع المستشار في التوجيه التربوي للمشاركة في مباراة الدخول إلى سلك التفتيش التربوي بعض قضاء سبع سنوات من الخدمة في مجال التوجيه وسنتين من التكوين بمركز التوجيه والتخطيط التربوي، و أربع سنوات على الأقل في سلك التدريس، والرجوع بعد هذا المسار، الذي قد يطول حسب الحالات، إلى تأطير ومراقبة أساتذة المواد الدراسية، ألا يعتبر كل هذا ضياع وتبديد للزمن التكويني والمهني في منطق هذا المرسوم؟ ولماذا لم يسمح لمستشاري التوجيه في منطق هذا المرسوم بولوج سلك التفتيش في التخطيط التربوي، بالرغم من وجود ما يبرر ذلك؛ حيث هناك تقاسم للتكوين بالجذع المشترك بمركز التوجيه والتخطيط، إضافة أن مجموعة من أطر التوجيه التربوي تشتغل ضمن بنيات ومصالح إدارية للتخطيط بالنيابات والأكاديميات والوزارة؟ ولماذا سمح مثلا للمتصرفين بولوج مسلك التفتيش في التخطيط ومسلك التفتيش في الشؤون المادية والمالية في نفس الآن؟ ألا يعتبر ذلك انحيازا لفئة على حساب فئة أخرى في غياب المبررات الموضوعية لذلك؟
• العمل بالجذع المشترك والتصريح بالفصل بين التكوين في المجال التربوي، والتكوين في المجالين الإداري والمالي:إن مشروع المرسوم يصرح بالشيء ونقيضه في نفس الآن، ففي مكان ما يطرح ضرورة الفصل بين التكوين في المجال التربوي، والتكوين في المجالين الإداري والمالي، وفي نفس الآن يتبنى فلسفة إحداث الجذع المشترك في السنة الأولى وأسلاك التخصصات في السنة الثانية، ونحن نعلم بأن سياسة الجذع المشترك تدخل ضمن استراتيجيات التوجيه، حيث يتم اللجوء للجذع المشترك في حالات توفر مدخلات تتكافؤ نسبيا في رصيدها المعرفي والأكاديمي ومسارها المهني بهدف تمكين هذه المدخلات تدريجيا من إبراز جانبياتها وميولاتها قصد اعتماد هذه الأخيرة ضمن المعايير التربوية المؤسساتية المتحكمة في بناء قرارات التوجيه، وبتحليلينا لمسارات وجانبيات المدخلات يتضح التفاوت الصارخ لمساراتها المهنية لا من حيث الطبيعة ولا من حيث المستوى الدراسي والأكاديمي والمدد الزمنية. إضافة إلى أن الميولات والرغبات لا يمكن بلورتها ضمن الجذع المشترك لأنها محددة بشكل مسبق وقبل ولوج المركز، إذا ما استثنينا حالة المتصرفين، ولا يمكن لنا أن نشهد أستاذا للغة العربية يتحول إلى مفتش في التخطيط أو مستشارا في التخطيط يتحول إلى مفتش في الشؤون المادية والمالية أو مستشارا في التوجيه يتحول إلى مفتش في التخطيط... حسب مشروع المرسوم دائما. وبالتالي، كل ما يمكن الإقدام عليه في منطق هذا المرسوم هو التفكير في إرساء جذعين مشتركين تتخللهما مواد تكوينية تنتمي لمساحة العمل المشترك، تسهيلا للعمل الجماعي والتعاون بين مختلف فئات التفتيش المنتمية لنفس السلك.
بناء على ما سبق، نأمل أن نكون قد ساهمنا ضمن حدود معينة في كشف بعض التناقضات التي تخللت هذا المشروع، ورصدنا بعضا من الصعوبات التي ستعوق تنفيذ مقتضياته، وأن يشكل ذلك مبررا كافيا أمام المسؤولين عن الشأن التربوي لمراجعة وإعادة هندسة هذا المشروع وفق مقاربة تفاعلية ومنسجمة مع تحديات اللحظة التربوية ورهانات السياسة التكوينية بمختلف مراكز التكوين، وخاصة أنه لم يأخذ بعد طريقه إلى التنفيذ في انتظار الدراسة والتوقيع من طرف الأمانة العامة للحكومة والقطاعات الوزارية المعنية، وجاء في زمن حكومة تصريف الأعمال في الوقت بدل الضائع.
(*) - باحث قي قضايا التربية والتعليم
الرباط، 30 أكتوبر 2013
0 commentaires :
إرسال تعليق